ولما بُعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان المشركون يعذبون أصحابه رضي الله عنهم أشد العذاب، ونالهم أشد الأذى، بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك الظرف وفي ذلك الوقت الحالك وبشرهم بأن دينه هو دين الأمن ودين الرخاء والسلام للإنسانية جميعاً، فإنه لما جاءه أصحابه وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوسداً بردته في الكعبة، قالوا: يا رسول الله! إن البلاء قد اشتد بنا فادع الله لنا، فقام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محمر الوجه، متأثراً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من استعجالهم وعدم صبرهم، ولا غرابة في ذلك فهذا شأن النفوس البشرية، فأخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن ما يلاقون من الأذى هو حال الأمم قبلهم، وقال: {
قد كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرق رأسه ويشق شقين، لا يرده ذلك عن دينه} إلى أن قال: {
والذي نفسي بيده لتسيرن الضعينة ما بين عدن وصنعاء -أو أبين وصنعاء- لا تخاف إلا الله} فبشرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الأمن سوف يستتب بفضل الإيمان بالله تبارك وتعالى، حتى إن الضعينة سوف تقطع هذه المسافة في
جزيرة العرب لا تخاف إلا الله تبارك وتعالى، وفعلاً لم يمض وقتاً طويلاً حتى كان الراعي وغيره يقطع المفاوز وهو لا يخاف إلا الله تبارك وتعالى والذئب على غنمه، أما البشر فلا يخاف منهم أبداً.
وقد تحقق هذا الأمن على يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما آمن الناس ودخلوا في دين الله تبارك وتعالى أفواجاً، والعجيب أن هذا الأمن الذي تحقق على يد محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الهداية والخير للبشرية، تحقق بأقل ما يمكن أن يتحقق من الدماء، فقد أحصى المؤلفون في السيرة عدد القتلى الذين قتلوا في جميع الحروب التي خاضها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يزيدوا على ألف قتيل فقط، ومن هؤلاء الألف بنو قريظة، مع أن بني قريظة لا ينطبق عليهم في الحقيقة أنهم قوم حاربوا، فليسوا قوماً أو أمةً أو عدواً خارجياً محارباً، وإنما هم بتعبيرنا الحديث: (مواطنون ارتكبوا الخيانة العظمى) لأنهم كانوا تحت حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموالاة العدو الخارجي -الأحزاب- الذي جاء لحصار
المدينة، ومع ذلك قتل منهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضع مائة، فهؤلاء يدخلون ضمن هذا العدد المقارب للألف من القتلى، فقد حقق الله تبارك وتعالى الأمن وعممه في
جزيرة العرب وأطراف
الشام و
العراق، وكل ما دخل في حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي حكم المسلمين.
ولو أننا قارنا - ولا مجال للمقارنة، ولكن لأن خفافيش الأبصار والمقلدين لا يجدون ولا يريدون أن يجدوا قدوة إلا أعداء الله تبارك وتعالى في الغرب والشرق- بين هذا العدد وبين ضحايا الحرب العالمية الثانية، كم قُتل في الحرب العالمية الثانية، وكم جرح، يقال في الإحصائيات الدولية: إن ضحايا هذه الحرب ستين مليوناً من القتلى والجرحى، وماذا حققت من خير، أو أمن، أو رخاء؟!!!
فانظروا إلى ثمرة الإيمان كيف تثمر الأمن العظيم بأقل عدد، وانظروا إلى الكفر بالله عز وجل، وإلى أفعال الجبابرة والطواغيت الذين يريدون العلو والفساد في الأرض، كيف يدمرون الأمم والشعوب، وهذه الملايين من البشر تذهب ضحايا نزوات شخصية لطواغيت من البشر متألهين فأين هذا من ذاك.
العرب في الجاهلية اقتتلوا في حرب داحس والغبراء أربعين سنة، حتى تفانت عبس وذبيان، سبحان الله! وما هي داحس والغبراء؟! فرسان للسباق، اتهم كل فريق الطرف الآخر بأن هذه سبقت تلك؛ فتحاربت القبيلتان اللتان كانت منهما هذان الفرسان أربعين سنة.
وما عهد ذلك منكم ببعيد، أيضاً في الجاهلية الحديثة فإن دولتين من دول
أمريكا الوسطى، أظنها
الدومينيكان و
السلفادور، اقتتلتا أيضاً ودامت الحرب بينهما، من أجل مباراة لكرة القدم.
الإنسان إذا فقد الإيمان وأخذ يرفع ويضخم التوافه ويعظمها في قلبه إلى حد أنه يقاتل من أجلها ويقتتل، فهو ذلك الإنسان الجاهلي، سواء كان قبل بعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم بعد بعثته.
فإذا فقد الإيمان فقد الأمن ولو لأتفه الأسباب، ولو لأحط الغايات وأدنى ما يستمتع به من الشهوات، فكيف تحقق الأمن في المجتمع المسلم؟ وكيف كان سلوك المؤمنين في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين تحقق بهم ذلك الأمن؟